يروي «رمزي» في عدة حلقات قصة التحاقه بتنظيم «القاعدة» ثم انتقاله للعمل جاسوساً من داخلها لمصلحة جهاز استخبارات غربي. 
في هذه الحلقة يتحدث «رمزي» عن طفولته وانضمامه إلى مقاتلي البوسنة، وعن تجربته وتجربة المجاهدين العرب هناك، وكيف أخرجهم اتفاق دايتون
من البوسنة عام 1995، ما دفع بقادتهم إلى محاولة إقناع الجيش البوسني بالانقلاب على الرئيس علي عزت بيغوفيتش قبل توقيع الاتفاق.
وينقل عن خالد الشيخ «مهندس هجمات 11 سبتمبر» 2001 ضد الولايات المتحدة والذي كان أحد «المجاهدين» العرب في البوسنة آنذاك: «أقسم بالله إنني سأنتقم من أميركا».
 
> لا تريد أن تكشف عن شخصيتك الحقيقية في هذه المقابلة. بماذا تريدنا أن نخاطبك؟

- نعم، لا أريد كشف شخصيتي الحقيقية لدواعٍ أمنية. يمكن مخاطبتي بـ «رمزي»؟

> لماذا اسم رمزي بالذات؟

- الاسم مشتق من الرمز والسمو، وكتابي الذي سيصدر قريباً باللغة الإنكليزية بعنوان «القاعدة وقوة النبوءة» سيكون باسم رمزي كذلك.

> هل استخدمت هذا الاسم خلال عملك؟

- نعم استخدمت هذا الاسم في مرحلة من مراحل التحاقي بتنظيم القاعدة، والعمل الاستخباراتي، ولكن أفضّل عدم الحديث عن أي مرحلة.

> هل غيّرت اسمك بتغيّر مراحل عملك؟

- نعم.

> هل تحمل جواز سفر للدولة التي عملت معها؟

- أحمل أكثر من جواز، ولكن خلال فترة البوسنة والقاعدة كنت أحمل جواز سفر واحداً، ولم أحمل هذا الجواز معي خلال وجودي في البوسنة أو أفغانستان. فالجواز عادة يوضع في غرف الأمانات في المضافات أو البيوت الآمنة، لعدم امتلاكنا منازل خاصة بنا ولأننا نقيم في معسكرات. وحين كنت أسافر إلى أفغانستان لم أحمل جواز سفري لأن دخولي إلى هذا البلد كان غير قانوني أصلاً. كنت أدخل إلى أفغانستان على أساس أنني أفغاني من خلال بوابة طورخوم الحدودية.

> هل يمكن أن تحدثنا عن النشأة والطفولة؟

- نشأت وترعرت في إحدى المدن الساحلية في الوطن العربي، طفولة محافظة. أبي كان مقاولاً ووالدتي سيدة بيت. ومنذ نعومة أظافري وأنا مهتم بالعلم والدين الشرعي. أسرتي محافظة ووالدتي كانت متدينة جداً.

> وهل أنت متدين أيضاً؟

- نعم. أصوم وأصلّي وحافظ للقرآن الكريم، ومحافظ على جميع الصلوات، وعلى جميع الفرائض، ولا أحتسي المشروبات الكحولية، ولا أدخّن، وأعتبر نفسي محافظاً ولا أحب صفة «الليبرالي».

> كيف بدأ اهتمامك بالجهاد العالمي؟

- في أواسط التسعينات من القرن الماضي زاد اهتمامي بالسياسة، سواء الداخلية أو الخارجية. كانت مرحلة ما بعد حرب الخليج وانطلاق عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبدأت المناكفة بين التيار الإسلامي المحافط والحكومات العربية. خلال تلك الفترة انتميت إلى الحلقات الاسلامية، وكنت أستمع وأتابع بشكل متواصل أشرطة ومحاضرات الشيخ سلمان العودة، والشيخ سفر الحوالي، لا سيما محاضرة سلمان العودة «صناعة الموت وصناعة الحياة». وتأثرت بخطيب مفوّه اسمه عبدالوهاب الطريري، كان يملك تأثيراً قوياً، وخطبه عن الحرب العرقية والدينية في البوسنة والهرسك ومجازر الصرب هزّت وجداني. على أثر ذلك الشحذ الديني، أخذتني الحمية كأي مسلم غيور على دينه وأمته وانضممت إلى هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية كمتطوع، وكانت تابعة لرابطة العالم الإسلامي لجمع التبرعات للمقاتلين العرب في البوسنة من أمام المساجد ومعارض الكتب.

مع مرور الوقت بدأت أتساءل: هل ما أقوم به يكفي؟ كان الجواب: لا. في عام 1994 سافر أحد اصدقاء الطفولة سراً إلى البوسنة للجهاد ضد الصرب، وبعد عودته من البوسنة لتسلم المبالغ التي تم جمعها للمقاتلين هناك ذهبت لزيارته وأبديت رغبتي في الانضمام إليه للقتال في البوسنة. كان عمري في ذلك الوقت ستة عشر عاماً. سألني الصديق هل أنت متأكد؟ الحرب ليست سهلة وفيها مشاق. قلت له: نعم. سألني هل تظن أن الجهاد يحتاجك؟ قلت له لا، الجهاد لا يحتاجني، أنا من يحتاج الجهاد. قلت له إننا كمسلمين في حاجة الى الجهاد وليس العكس، ونحن من يحتاج إلى المغفرة، لأن الجهاد كان ولا يزال في نظر كثيرين من المسلمين أقصر طريق الى المغفرة والجنّة، وأقصد هنا الجهاد الحق والمعروف والمستوفي الشروط، لأن الآية القرآنية في سورة محمد تقول: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). جوابي غيّر من رأيه وبدد شكوكه وأقنعه بأنني مدرك لحقيقة الجهاد.

> هل أخبرت عائلتك حين قررت الذهاب للجهاد في البوسنة والهرسك؟

- لا، لم أخبرهم لأنني كنت أعلم انهم لن يوافقوا على فكرة ذهابي إلى هناك. لذلك اتصلت بهم هاتفياً بعد مغادرتي وقبل دخولي إلى البوسنة.

> هل سافرت مع صديقك؟

- نعم، حصلت على تأشيرة كرواتية وبعد ذلك توجهنا إلى ليوبليانا عاصمة سلوفينيا وقضينا فيها يومين وزرنا معسكراً للاجئين هناك، وبعد ذلك ذهبنا إلى مدينة سبليت في كرواتيا وكانت أقرب مدينة إلى البوسنة ومن هناك إلى فندق يسمى «بنسيون تومي» كان مقصد المجاهدين العرب في طريقهم إلى البوسنة. وجدت 12 مجاهداً عربياً في انتظار دورهم للدخول إلى الحدود الكرواتية - البوسنية التي كانت تبعد 45 دقيقة في الباص. ومن أجل الحفاظ على السرية وعدم جذب الانتباه كنا ندخل الحدود بمجموعات صغيرة لا يتعدى عدد أفرادها أربعة إلى خمسة اشخاص في اليوم الواحد. الكرواتيون كانوا يمنعوننا من الدخول، والجهة الأخرى من حدود البوسنة كانت تحت سيطرة الكروات البوسنيين الذين يعادون المجاهدين العرب.

مدينة زينيتسا كانت تحت سيطرة الحكومة وتحتضن مقر كتيبة المجاهدين. كان هناك سكن ضخم يتسع لنحو 400 مجاهد، في السابق كان مقراً لعمّال مصنع الحديد. فور وصولي أجريت كغيري من المجاهدين مقابلة مع أبو عيسى المصري لمعرفة توجهاتي وخبراتي، وصُعقت حين علمت من أبو عيسى أن عدد المقاتلين العرب المجاهدين أو الأنصار - كما كان يُطلق علينا - قليل لا يتعدى 380 مقاتلاً من العرب والأتراك والبريطانيين والأميركيين والباكستانيين وغيرهم. كان المقاتلون من كل أنحاء العالم يرتفع عددهم في الصيف وكنا نسمّي جهادهم في الصيف «سياحة الجهاد» لأنهم كانوا يأتون في موسم الصيف والإجازات. كانوا من الخليج لا سيما السعودية وقطر والبحرين والكويت ومصر، إضافة إلى مقاتلي شمال افريقيا الذين كانوا يأتون من إيطاليا بسبب القرب الجغرافي. كان أبو عيسى يسأل عن الخبرة الجهادية السابقة ونوعية التدريب وفترة الجهاد. وإذا كان المقاتل لديه خبرة جهادية سابقة وتدرب على السلاح كان يُرسل إلى الجبهة مباشرة.
بالنسبة إلي البوسنة كانت تجربتي الجهادية الأولى، مما دعا أبو عيسى إلى إبداء ملاحظة على صغر سنّي ومدحي والثناء على اختياري لهذا السلوك. سألني هل كتبت وصيتك؟ فأجبت لا. فطلب مني كتابة وصية مع كتابة وسيلة اتصال بأهلي لإبلاغهم في حال استشهادي
. وأتذكر كيف مازحني مسؤول المخزن وهو مغربي حين طلبت منه بدلة عسكرية على مقاسي، فقال ليس لدينا بدل «مذر كير» (متجر متخصص في ملابس الأطفال).

> كيف كانت حياتك هناك؟

- حياة صعبة وغريبة جداً، كنا نأكل المعكرونة بأيدينا، وكنا نأكل البصل والخبز الذي يشبه «الطابوق» يستعصي على القطع. معظم الشباب الذين كانوا معنا في البوسنة أصبحوا لاحقاً من قيادات تنظيم القاعدة في السعودية وهم يوسف العييري وعبدالعزيز المقرن وخالد الحاج وصالح العوفي. تدربت 45 يوماً، والمعسكر كان على بعد ساعة بالسيارة وكان قريباً من قرية اسمها مهرتش. النظام اليومي كان الاستيقاظ قبل الفجر بساعة لقيام الليل، وبعد ذلك الصلاة، ثم حلقات القرآن.
وبعد ذلك نبدأ التدريبات العسكرية والجسدية. كنا نركض خمسة كيلومترات يومياً في الجبال والطبيعة الخلابة. التدريب كان جميلاً لأن الطقس جميل والمناظر خلابة. المساجد والمآذن كانت تلوح في الأفق من بعيد، كان «جهاداً اوروبياً». بعد التدريب نعود لتناول الإفطار وكان مكوناً من الخبز الجاف والزبدة والمربى من القرى المجاورة التي تلفها مزارع الفواكه من الخوخ والتفاح ومزارع الماشية والطبيعة الخلابة. ولكسب محبة الناس كانت كتيبة المجاهدين تنفق الكثير وتبتاع من السكان المحليين والمزارع المحلية الأجبان والخبز والأغذية لدعم اقتصادهم. بعد تناول الإفطار نبدأ في التدريب النظري على الأسلحة والقنابل و «الار بي جي» ومضادات الطيران
. وفي العصر نبدأ بالتدرب عليها عملياً. بعد صلاة المغرب كنا نجلس في حلقات الدروس الدينية على يد شيخ سعودي كنيته أبو أيوب الشمراني. كان المسؤول الشرعي لكتيبة المجاهدين. وأحياناً على يد الشيخ أنور شعبان المصري من الجماعة الاسلامية التي يقودها الشيخ عمر عبدالرحمن المسجون حالياً في أميركا. كان أنور شعبان إمام مسجد ميلانو قبل الانتقال الى البوسنة. وفور الانتهاء من الدروس وصلاة العشاء تبدأ الحراسات الليلية.

بعد 45 يوماً من التدريب، يُرسل المجاهدون إلى الجبهة وهي كانت موزعة على منطقتين، الأولى هي خط الجبهة والثانية المأسدة أو «مأسدة الشهداء» أو دار الأسود. كان قائد الكتيبة أبو المعالي الجزائري ونائبه أبو الحارث الليبي الملقب بالجزّار لقطعه أرجل المجاهدين وأطرافهم لعدم امتلاكه الإمكانات الطبية لمعالجة الجروح، لذا كان يلجأ الى البتر السريع. الشيخ أنور شعبان كان القائد الفعلي للكتيبة وأبو المعالي كان دوره هامشياً.

> كيف كانت علاقة المقاتلين ببعضهم بعضاً؟

- علاقاتنا كانت مبنية على الاحترام والمحبة والرحمة، لأننا لم نكن نعرف متى سنموت، وكنا نخاف من لقاء رب العالمين ونحن مخطئين بحق غيرنا. كما أن الجو العام كان إيحابياً.
كنا كتيبة المجاهدين تحت قيادة الجيش البوسني ولم ننفصل عن الشعب البوسني ولا عن الجيش. كما أن وجود البوسنيين في كتيبتنا كان يملي علينا أن نكون قدوة لهم، والتعامل بالاحترام والتقدير
. كنا مدركين أن مهمتنا التغيير بالقدوة وليس بالفرض. على سبيل المثال، كنت برفقة مهندس جزائري وشابين من السعودية نتمشى في مدينة زينيتسا ومررنا بإحدى الفتيات البوسنيات التي كانت ترتدي بنطالاً ضيقاً، وكان هذا في ذلك الوقت فعلاً فاضحاً. على رغم أننا لم ننظر إلى الفتاة، إلا أنها سألت الشاب الجزائري: أتريد أن تضع الغطاء على رأسي وتحجّبني؟ فردّ عليها الشاب بالقول: «إن الله لم يطلب مني فرض الغطاء عليك، بل فرض عليّ عدم النظر اليك». خجلت الفتاة منا وانصرفت.
هذه الدماثة في الأخلاق تفتقدها الغالبية العظمى من المجاهدين الآن، لأنهم نسوا كلمة الشيخ أنور شعبان حين كانوا يطلبون منه السماح لهم بالنزول إلى الأسواق البوسنية للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، ولا سيما مجاهدي الكويت والسعودية.

> لماذا كان يمنعهم الشيخ؟

- الشيخ أنور شعبان كان يمنعهم لسببين: أولاً، أن البوسنة رزحت تحت الشيوعية سبعين عاماً، فكان يقول حتى نقيم الحجة على البوسنيين يجب منحهم سبعين عاماً لتعلّم الإسلام مرة أخرى وبعد ذلك نقيم الحجة عليهم. الأمر الآخر، ذكرهم بقوله تعالى في سورة الحج: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ).
رب العالمين قال إذا اصبحت لهم السلطة بعد ذلك يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. أي يجب أن تتمكن وبعد ذلك تنهى عن المنكر. كان الشيخ معتدلاً ورفض فرض أي شيء على الشعب البوسني. مجاهدو البوسنة أدركوا مهمتهم وفهموها، أما مجاهدو اليوم فهم غير مدركين لمهمتهم. مجاهدو البوسنة كانت مهمتهم الدفاع عن أرواح المسلمين العزّل ورفع الظلم. مجاهدو اليوم يرون مهمتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل وجود السلطة الشرعية، وكأن الدنيا لن تستقيم إلا إذا غطت النساء وجوههن، وهذه القضية خلافية بحد ذاتها، ولا يجوز فرض الرأي في القضايا الخلافية.

> من كان مسؤول المعسكر في ذلك الوقت؟

- أبو أنس الفلسطيني كان الأمير والمسؤول عن المعسكر وهو من قدامى المحاربين في أفغانستان. كان شديداً خلال التدريب ولطيفاً دمث الاخلاق بعده. وكان أيضاً أبو عمر المصري من الجماعة الاسلامية المصرية، وكان من قدامى المحاربين في افغانستان ايضاً، وكان مدرباً للسلاح. في حديث مع أبو أنس الفلسطيني نصحني بالانضباط العسكري والطاعة العمياء وعدم النقاش وتنفيذ الأوامر من أجل أن اكون محط ثقة المسؤولين. تفاجأت من النصيحة وسألته: بما أننا في معسكر فمن المفترض أن الجميع منضبط؟ قال لا، لدينا مشكلة في الانضباط، لأن الشباب المجاهدين هنا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة والغنية واعتادوا على النقاش والمجادلة، فمنهم المدرّس وصاحب المطعم وطالب الجامعة والمهندس والتاجر ومعظمهم يفتقد حس الانضباط. قلت:
لماذا لا أرى مقاتلين من الطبقة الفقيرة؟ أجابني: «الفقراء ليس لديهم وقت للتفكير في أمور جانبية مثل الجهاد، لأن تفكيرهم وجهدهم ينصبّان على تأمين لقمة العيش لهم ولأطفالهم. الموجودون هنا مرفّهون في أوطانهم ولديهم متسع من الوقت للاستماع إلى الأخبار ورؤية هموم الأمة بعكس الفقير.

من الأمور التي لفتت نظري انتقال عدد من جنود حفظ السلام الأممية للقتال مع المسلمين، كان على رأسهم أبو محمد الماليزي وهو عقيد في الجيش الماليزي وكان ضمن قوة حفظ السلام الموجودة في البوسنة، ولكن بسبب تأثره بما شاهده هناك ترك الجيش الماليزي والتحق بالمجاهدين العرب لمشاركتهم خبرته العسكرية. كان من أفضل المدربين. وللمناسبة خالد الحاج والمقرن والعييري ورمزي بن الشيبة وخالد الشيخ (خالد الشيخ محمد) كانوا معنا في البوسنة.

> هل كنت منضبطاً في المعسكر أم كان حالك حال البقية؟

- حقيقة نصيحة أبو أنس سببت لي مشكلة، فالانضباط الزائد لديّ أخّر التحاقي بالجبهة لشهر كامل، وأصبحت مسؤولاً عن مخزن الأسلحة في المعسكر. فقمت بإعادة ترتيب المخزن من جديد، وكنت أطلب من المدربين إرسال المعاقبين من المجاهدين إلى المخزن لاستخدامهم في تنظيف الأسلحة. بعد ذلك كنت أذهب إلى المأسدة لأسبوعين وإلى الجبهة لأسبوعين والعودة الى المعسكر لأسبوعين.

كان من مهماتنا خلال فترة أسبوعي المعسكر متابعة الأنهار والطرق والبحث عن المترصدين على خطوط الإمداد. كنا ننام بكامل الملابس والسلاح، وكنا نأكل الطعام غير مطبوخ، لأن طهي الطعام يعني ناراً ودخاناً ويعني ذلك كشف مكاننا وإطلاق النار علينا من الصرب المتربصين غير بعيد منا. كان لدى الصرب متطوعون من اليونان ومرتزقة لبنانيون وفرنسيون وأوروبيون. وكان هناك مرتزق لبناني مسيحي أرثوذكسي يقذعنا بالعربية بأقبح الشتائم ويقول لنا عبر مكبّر الصوت: «يا شباب إلي بدو الجنة يرفع راسه». لم نكن نستطيع الرد عليه، ولكن بعد فترة تربّص به أحد الشبان السوريين الذي خدم في القوات الخاصة السورية قبل التحاقة بنا وقتله.

> هل شاركت في معارك هناك؟

- نعم، شاركت في ثلاث معارك كبرى، الأولى كانت معركة الفتح المبين. كنت في كتيبة الإسناد في بداية عام 1995. دخلت مجموعتنا بعد مجموعات الاقتحام لنطهّر المكان وتأمين السلاح والخنادق وتأمين الانسحاب ورد الهجوم. المعركة الثانية كانت في شهر حزيران (يونيو) من العام نفسه وكان اسمها معركة الكرامة، كنت على سلاح الهاون لأنني كنت أجيد حساب الاحداثيات. المعركة الأخيرة كانت معركة بدر البوسنة في أيلول (سبتمبر) 1995، في هذه المعركة كنت مسعفاً بسبب النقص في المسعفين. طلبوا مني وتسعة من زملائي التدرب خلال 48 ساعة على جميع عمليات الإسعافات من تخييط الجروح وحقن الإبر وإخراج الرصاص وربط الكسور. كنا نتدرب على الأرانب الحية، فنمسك الأرنب ونشق بطنه ونعيد خياطته وهو حي للتعوّد على خياطة الجروح.
في الدقائق العشر الأولى من المعركة قُتل سبعة منا وبقيت أنا وزميلين لي. كان المقاتلون العرب والأجانب في تلك المعركة نحو 500 مقاتل، قُتل منهم 48 وجرح أكثر من 91. بعد المعركة طلبوا مني الذهاب إلى مدينة زافيدوفيتش للمساعدة في إسعاف الجرحى، وفور وصولي إلى هناك تزحلقت بالدم من غزارته، كان يوماً من أصعب أيام حياتي. كان الجرحى يمسكونني من قميصي يطلبون الماء ولم استطع تزويدهم بالماء لأنه سيزيد نزيفهم. كان هناك مقاتل يمني مصاب في قدميه بعدد كبير من الرصاصات وألحّ عليّ بإعطائه الماء، بينما كنت أنظر إلى عظام قدميه بارزة من شدة الجروح.

> هل انتصرتم في تلك المعركة؟

- نعم، وتحررت نحو 56 قرية بوسنية ورفع الحصار عن مدينة مجلاي وعن الخط السريع بين زينيتسا ومدينة توزلا. قتلنا نحو 300 مقاتل صربي. تحررت خمسة في المئة من أراضي البوسنة. بعد كل هذا التقدم والتضحيات ضغطت الدول الغربية على البوسنيين لعقد سلام بينهم وبين الصرب. لم نكن مقتنعين بعملية السلام تلك. كان هناك شعور بأن ما حصل تآمر على مسلمي البوسنة. في شهر كانون الأول (ديسمبر) وصلتنا معلومات بأن اتفاقية السلام ستمنح الصرب الذين يشكلون فقط 35 في المئة من سكان الجمهورية نحو 49 في المئة من الأراضي، في حين أن المسلمين الذين يشكلون 49 في المئة من السكان عليهم أن يتشاركوا مع الكروات مناصفةً في الأراضي.
باختصار، كانت اتفاقية السلام مكافأة لمرتكبي الجرائم ومعاقبة للذين ضحّوا. في 12 كانون الاول جمع الشيخ أنور شعبان المقاتلين في مسجد الكتيبة، وأخبرنا أنه سيذهب للتحدث إلى القيادة العسكرية البوسنية لإقناعهم بأن الاتفاقية ظالمة وغير عادلة وأن لديهم أحد خيارين: إما الاستمرار في القتال والانقلاب على الرئيس علي عزت بيغوفيتش، أو القبول بالاتفاقية.

> هل طرح المجاهدون العرب فكرة الانقلاب في ذلك الاجتماع؟

- نعم طرحوا على القيادة البوسنية العسكرية فكرة الانقلاب أو العصيان.

> وكيف ردت القيادة العسكرية البوسنية؟

- لا نعرف لغاية هذه اللحظة، ولكن من المؤكد أنهم رفضوا.

> كيف عرفت؟

- في 14 كانون الاول عقد اجتماع بين المقاتلين العرب بقيادة الشيخ أنور شعبان ونائب قائد لواء المجاهدين الدكتور أبو الحارث الليبي وأمير العرب في اللواء أبو زياد النجدي ونائب أمير العرب اسمه «انجشه» الشرقي من السعودية، وبين الجيش البوسني. في طريق عودة قادة المجاهدين العرب المذكورين من اجتماعهم مع القيادة العسكرية البوسنية كان يجب عليهم المرور عبر قرية كرواتية اسمها «جبشه» تقع ما بين مقر القيادة العسكرية البوسنية وما بين مدينة زينيتسا مقر قيادة لواء المجاهدين. في هذه القرية كان هناك حاجز عسكري، وتم توقيف المجاهدين القادة الخمسة على هذا الحاجر الذي تديره القوات الكرواتية لمدة نصف ساعة. وبعد ذلك على بعد 50 إلى 60 متراً جاءت شاحنة وخرجت منها أعداد كبيرة من المسلحين، وقاموا بإطلاق النار على سيارة المجاهدين فقتلوا جميع من فيها.

> من باعتقادك قتل هؤلاء القادة؟

- البعض يقول الاستخبارات الكرواتية، ومنهم من يقول ان الاستخبارات العسكرية تعاونت مع القيادة العسكرية البوسنية لأنهم كانوا يعتقدون أن المجاهدين العرب سيسببون المتاعب. لغاية هذه اللحظة لا أحد يعلم بالتحديد من قتلهم.

> كيف كانت ردود فعل المقاتلين العرب في الكتيبة؟

- طبعاً وصلتنا الأخبار في الكتيبة، انهار أبو معالي الجزائري وأغلق على نفسه الباب. فهمنا انها عملية لقطع الرؤوس القيادية في ضربة واحدة. أبو أيوب المغربي الذي كان القائد العسكري للواء المجاهدين في ذلك الوقت أمرنا بالتجمع مسلحين في المسجد وقال لنا «اليوم جبشه ستحترق بأكملها». في ذلك الوقت، بدأ جنرالات الجيش البوسني بالتوافد واحداً بعد الآخر على معسكرنا وكان احدهم اسمه عرفان كان قائد الفيلق السابع المسلم - كان يسمى الفيلق المسلم لكثرة تديّن أفراده. قال لنا عرفان: «وصلنا أن الرئيس عزت وقّع اتفاقية دايتون». أبو ايوب صرخ وقال:
«هذه مؤامرة، قياداتنا التي عارضت عملية السلام تقتل الآن؟ هذه مؤامرة يجب أن ننتقم».
وبدأنا بالتكبير وكنا مستعدين للقتال في جبشة. فقال الجنرال عرفان: «هناك كتيبتان من الجيش البوسني الآن في محيط جبشه حماية لها. وإذا كنتم تريدون اقتحام جبشه فستقاتلون الجيش البوسني». عند ذلك ساد الصمت وقال أبو ايوب: «لواء المجاهدين يُحلّ اليوم، وكل شخص يذهب في حال سبيله». فأشار الجنرال عرفان بالقول: «يا شباب، من يريد منكم الجنسية البوسنية فسنمنحها له، لأن من شروط عملية السلام خروجكم من البوسنة، ومن لا يستطيع العودة الى بلاده لعدم حيازته جواز سفر، سنمنحه جوازاً للمغادرة، وسنستثني من لا يملك مكاناً للذهاب اليه».

> من خرج ومن بقي من المقاتلين؟

- فضّل نحو 60 مجاهداً البقاء في البوسنة ومنهم أبو المعالي والمصريون والجزائريون، والبقية وهم نحو 400 غالبيتهم من السعودية وبقية دول الخليج ومن البريطانيين والأوروبيين وحاملي الجوازات الاوروبية سافروا وتركوا البوسنة... تم ترحيلهم إلى مطار زغرب في كرواتيا ومن هناك تفرقوا.

> غادرت معهم؟

- أنا غادرت إلى تركيا لالتقاط أنفاسي. وما زلت أتذكر تلك الليلة حين خلعت بدلتي العسكرية، شعرت حينها انني انزع جلدي. نهاية كانت سريعة جداً ومؤلمة، وغير متوقعة. كنا نعتقد أن الجهاد في البوسنة سيستمر إلى الأبد. وما زلت أتذكر كيف أقسم خالد الشيخ وهو يبكي ويمسح دموعه وقال: «أقسم بالله إنني سأنتقم من أميركا». كان يرى أن البوسنة أكبر صفعة على وجه المسلمين. فقلت له: هل قصدك أن نجلس هنا ونحارب؟ كيف؟ طائرات أميركا ستمسح الكتيبة في يوم واحد إذا حاولنا أن نقاوم هنا؟ قال لي: من قال لك إننا سنقاوم هنا؟ وتابع: «إن غداً لناظره لقريب». كان متأثراً بمقتل الشيخ أنور وفكرة اننا طردنا من أرض الجهاد.

> لماذا الانتقام من الأميركيين وهم من أوقفوا الحرب في ظل فشل اوروبا؟

- البوسنة كانت مدرسة في التوحش والشباب العرب شاهدوا الأهوال هناك وكيف تآمر الغرب على المسلمين بعد تحقيقهم تقدماً على الأرض. الصرب الذين قتلوا الناس وارتكبوا المجازر تم منحهم نصف الجمهورية. الولايات المتحدة تدخلت وأعطت الصرب مساحة أكبر من نسبتهم، وأعطت المسلمين مساحة لا تتناسب مع عددهم! هذا خطأ. المجازر توقفت وبدأ المسلمون يستردّون الأراضي التي فقدوها. في نظرهم الولايات المتحدة كافأت المجرمين وعاقبت الضحايا. الحقد الجهادي على اميركا بدأ من البوسنة. كانوا يرون أن الفشل الأوروبي في حل المشكلة كان يصب في مصلحة المسلمين لأنه يعطيهم الوقت الكافي لتحرير الأراضي المغتصبة  .
عن صحيفة.الحياة اللندنية

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

 
غرائب وعجائب العالم هنا © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger
Top