عندما ندقق في قصة زرقاء اليمامة فإننا نكتشف أن ميزتها الأساسية لم تكن قوة البصر، بل البصيرة، إذ يروى أنها حذرت قومها من أعداء يقتربون، ولكن قومها لم يصدقوها وسخروا منها، فباغتهم أعداؤهم وأعملوا فيهم السيف.
إذا أردت أن تصف شخصا حُبي بقوة البصر وخلوه من أي من العيوب الانكسارية مثل حسر البصر أو مده أو انحرافه، كما عوفي من أي من أمراض العين الأخرى مثل المياه البيضاء أو الزرقاء، فأنت ستقول "إن فلانا مثل زرقاء اليمامة". ولكن، إلى أية درجة كان بصر زرقاء قويا؟ وهل كان ذلك حقيقيا؟
فزرقاء امرأة عربية سكنت اليمامة، وقيل إنها كانت ترى الشخص على بعد مسيرة ثلاثة أيام، وإن عينيها لونهما أزرق، فاشتهرت بزرقة عينيها وحدة بصرها، حتى أن قومها كانوا يستعينون بها لتحذرهم من الغزاة.
وإذا ما أردنا أن نحول مسافة نظرها إلى قياسات عصرنا الحالي، فإن مسيرة ثلاثة أيام تعادل مسافة تتراوح بين 80 و120 كيلومترا. فالمسافر يستطيع أن يقطع سيرا على قدميه في اليوم الواحد قرابة أربعين كيلومترا، ما بين سير واستراحة وطعام ونوم.
ويقول المشككون في قصة زرقاء اليمامة إن هناك مجموعة من المبالغات في قصتها: فأولا من الصعب على العين البشرية أن ترى مسافة تتجاوز خمسين كيلومترا، وهذا على شرط أن يكون الأفق ممتدا تماما، كأن يكون على قمة جبل مرتفعة، أما زرقاء اليمامة فلم يرو عنها صعود الجبال.
والمشكلة الثانية في قصة زرقاء نابعة من حقيقة أن الأرض كروية وليست مسطحة، وهذا يعني أن الأفق بعد مسافة تقارب خمسة كيلومترات لا يعود مرئيا، لأنه يغطس وينحني مختفيا مع تكور الأرض، ولا تستطيع أشعة الضوء الالتفاف لتلحقه، ولذلك فمن الصعب رؤية شيء واقف على سطح الأرض يتجاوز بعده عن المشاهد خمسة كيلومترات.
بالمقابل، فإن روايات أخرى نقلت عن زرقاء اليمامة تجعل وصفها منطقيا أكثر، إذ وصفت بأنها ترى الشخص على مسيرة يوم وليلة، وهذا يعني قرابة خمسين كيلومترا. أما بالنسبة لموضوع انحناء سطح الأرض، فربما كانت تصعد هضبة أو تلة قريبة من مساكن قومها مما يتيح لها التغلب على هذه الصعوبة ورؤية مسافة أبعد.
ربما كانت زرقاء اليمامة تصعد إلى تلة مما يتيح لها رؤية مسافة أبعد (غيتي إيميجز).
ومع ذلك، فإن التدقيق في قصة زرقاء اليمامة يجعلنا نكتشف أن ميزتها الأساسية لم تكن قوة البصر، بل البصيرة. إذ يروى عنها أنها حذرت قومها من شجر يسير، وكان الأعداء قد علموا بقوة بصرها فقطعوا الأشجار واستتروا بها حتى لا تكشفهم، فلما أخبرت زرقاء قومها بأن هناك شجرا يسير لم يصدقوها وسخروا منها، فلما أطبق أعداؤهم عليهم وباغتوهم أدركوا صدق زرقاء، ولكن بعد فوات الأوان.
ولذلك، ربما تكون زرقاء اليمامة قد حذرت قومها من الغزاة، وليس بالضرورة أن تكون فعلت ذلك باستخدام بصرها، بل ربما سمعت عن الغزاة من المسافرين أو العيون "الجواسيس"، أو ربما كانت تريد من قومها البقاء في حالة استعداد وعدم التراخي حتى لا يكونوا لقمة سائغة لعدوهم الملك حسان الحميري، الذي ينسب غزو اليمامة له.
ولكن النهاية المأساوية للقصة التي تمثلت في اجتياح العدو مساكن قوم زرقاء وقتل الكثيرين منهم، ربما تكون قد تناقلتها الروايات في ما بعد وضخمتها، خاصة أن حسان اقتلع عيني زرقاء، فماتت بعد مضي أيام قليلة.
ومن ثم، فسواء كانت أبصارنا قوية مثل زرقاء اليمامة، أو كنا ممن يعانون من عيب في البصر، علينا أن نتذكر أن البصيرة والقدرة على التحليل هي النقطة الأهم، فكثيرا ما رأت البصيرة ما عجز عن رؤيته البصر.
Top
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق